كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولًا} مقول قول مضمر أي يقول أهذا الخ.
والجملة في موضع الحال من فاعل يتخذونك أو مستأنفة في جواب ماذا يقولون؟
وجوز أن تكون الجواب.
وجملة {إِن يَتَّخِذُونَكَ} معترضة، وقائل ذلك أبو جهل ومن معه، وروى أن الآية نزلت فيه، والإشارة للاستحقار كما في يا عجبًا لابن عمر وهذا، وعائد الموصول محذوف أي بعثه و{رَسُولًا} حال منه وهو بمعنى مرسل.
وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرًا حذف منه المضاف أي ذا رسول أي رسالة وهو تكلف مستغنى عنه، وإخراج بعث الله تعالى إياه صلى الله عليه وسلم رسولًا بجعله صلة وهم على غاية الانكار تهكم واستهزاء وإلا لقالوا: أبعث الله هذا رسولًا.
وقيل: إن ذلك بتقدير أهذا الذي بعث الله رسولًا في زعمه، وما تقدم أوفق بحال أولئك الكفرة مع سلامته من التقدير.
{إِن كَادَ} إن مخففة من إن واسمها عند بعض ضمير الشأن محذوف أي إنه كاد {لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا} أي ليصرفنا عن عبادتها صرفًا كليًا بحيث يبعدنا عنها لاعن عبادتها فقط، والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالهم بادعاء أن عبادتها طريق سوي.
{لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} ثبتنا عليها واستمكنا بعبادتها، و{لَوْلاَ} في أمثال هذا الكلام يجري مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ، وهذا اعتراف منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات وإقامة الحجج والبيانات ما شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم، ولا ينافي هذا استحقارهم واستهزائهم السابق لأن هذا من وجه وذاك من وجه آخر زعموه سببًا لذلك قاتلهم الله تعالى.
وقيل: إن كلامهم قد تناقض لاضرابهم وتحيرهم فإن الاستفهام السابق دال على الاستحقار وهذا دال على قوة حجته وكمال عقله صلى الله عليه وسلم ففيما حكاه سبحانه عنهم تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه.
وقيل عليه: إنه ليس بصريح في اعترافهم بما ذكر بل الظاهر أنه أخرج في معرض التسليم تهكمًا كما في قولهم {بعث الله رسولًا} [الفرقان: 41] وفيه منع ظاهر والتناقض مندفع كما لا يخفى.
{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب} الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} أي يعلمون جواب هذا على أن {مِنْ} استفهامية تبتدأ و{أَضَلَّ} خبرها والجملة في موضع مفعولي {يَعْلَمُونَ} إن كانت تعدت إلى مفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كانت متعدية إلى واحد أو يعلمون الذي هو أضل على أن من موصولة مفعول {يَعْلَمُونَ} وأضل خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول.
وحذف صدر الصلة وهو العائد لطولها بالتمييز، وكان أولئك الكفرة لما جعلوا دعوته صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد إضلالًا حيث قالوا {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا} الخ والمضل لغيره لابد أن يكون ضالًا في نفسه جيء بهذه الجملة ردًا عليهم ببيان أنه عليه الصلاة والسلام هاد لا مضل على أبلغ وجه فإنها تدل على نفي الضلال عنه صلى الله عليه وسلم لأن المراد أنهم يعلمون أنهم في غاية الضلال لا هو ونفي اللازم يقتضي في ملزومه فيلزمه أن يكون عليه الصلاة والسلام هاديًا لا مضلًا، وفي تقييد العلم بوقت رؤية العذاب وعيد لهم وتنبيه على أنه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم.
{أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال والتنبيه على ما لهم من المصير والمال وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه، والظاهر أن رأى بصرية و{مِنْ} مفعولها وهي اسم موصول والجملة بعدها صلة، و{اتخذ} متعدية لمفعولين أولهما {هَوَاهُ} وثانيهما {إلهه} وقدم على الأول للاعتناء به من حيث أنه الذي يدور عليه أمر التعجيب لا من حيث أن الإله يستحق التعظيم والتقديم كما قيل أي أرأيت الذي جعل هواه إلهًا لنفسه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه معرضًا عن استماع الحجة الباهرة وملاحظة البرهان النير بالكلية على معنى انظر إليه وتعجب منه، وقال ابن المنير في تقديم المفعول الثاني هنا نكتة حسنة وهي إفادة الحصر فإن الكلام قبل دخول {أَرَأَيْتَ واتخذ} الأصل فيه هواه إلهه على أن هواه مبتدأ خبره إلهه فإذا قيل إلهه هواه كان من تقديم الخبر على المبتدأ وهو يفيد الحصر فيكون معنى الآية حينئذ أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه.
وقال صاحب الفرائد: تقدمي المفعول الثاني يمكن حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبرًا فالمقدم هو المبتدأ فمن جحعل ما هنا نظير قولك: علمت منطلقًا زيدًا فقد غفل عن هذا، ويمكن أن يقال: المتقدم هاهنا يشعر بالثبات بخلاف المتأخر فتقدم {إلهه} يشعر بأنه لابد من إله فهو كقولك اتخذ ابنه غلامه فإنه يشعر بأن له ابنًا ولا يشعر بأن له غلامًا فهدا فائدة تقديم إلهه على هواه.
وتعقب ذلك الطيبي فقال: لا يشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم وأن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ لكن صاحب المعاني لا يقطع نظره عن أصل المعنى فإذا قيل: زيد الأسد فالأسد هو المشبه به أصالة ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع فإذا جعلته مبتدأ في قولك: الأسد زيد فقد أزلته مقره الأصلي للمبالغة، وما نعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه لا القاء فيه فالمشبه به هاهنا إلاله والمشبه الهوى لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الإلهفقدم المشبه به الأصلي وأوقع مشبهًا ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة عندهم أقوى من الإله عز وجل كقوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} [البقرة: 275] ولمح صاحب المفتاح إلى هذا المعنى في كتابه.
وأما المثال الذي أورده صاحب الفرائد فمعنى قوله: اتخذ ابنه غلامه جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله وقوله: اتخذ غلامه ابنه جعل غلامه كابنه مكرمًا مدللًا اهـ. وأنت تعلم ما في قوله: إن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ فإن الحق أن الأمر دائر مع القرينة والقرينة هنا قائمة على أن {إلهه} الخبر وهي عقلية لأن المعنى على ذلك فلا حاجة إلى جعل ذلك من التقديم المعنوي، وقال شيخ الإسلام: من توهم أنهما على الترتيب بناء على تساويهما في التعريف فقد زل عنه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو الملتبس بالحالة الحادثة؛ وفي ذلك رد على أبي حيان حيث أوجب كونهما على الترتيب.
ونقل عن بعض المدنيين أنه قرأ {ءالِهَةً} منونة على الجمع وجعل ذلك على التقديم والتأخير، والمعنى جعل كل جنس من هواه إلهًا، وذكر أيضًا أن ابن هرمز قرأ {ءالِهَةً} على وزن فعالة وهو أيضًا من التقديم والتأخير أي جعل هواه الهة بمعنى مألوهة أي معبودة والهاء للمبالغة فلذلك صرفت، وقيل: بل الإلاهة الشمس ويقال ألاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام التعريف في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت كالمنكر بعد التعريف قاله صاحب اللوامح وهو كما ترى.
والآية نزلت على ما قيل في الحرب بن قيس السهمي كان كلما هوى حجرًا عبده، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانًا من الدهر في الجاهلية فإذا وجد أحسن منه رمى به وعبد الآخر فأنزل الله تعالى: {أَرَأَيْتَ} إلخ.
وزعم بعضهم لهذا ونحوه أن هواه بمعنى مهويه وليس بلازم كما لا يخفى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية كلما هوى شيئًا ركبه وكلما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى فالآية شاملة لمن عبد غير الله تعالى حسب هواه ولمن أطاع الهوى في سائر المعاصي وهو الذي يقتضيه كلام الحسن، فقد أخرج عنه عبد بن حميد أنه قيل له: أفي أهل القبلة شرك؟ فقال: نعم المنافق مشرك إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله تعالى وإن المنافق عبد هواه ثم تلا هذه الآية، والمنافق عند الحسن مرتكب المعاصي كما ذكره غير واحد من الأجلة.
وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله تعالى أعظم عند الله عز وجل من هوى يتبع» ولا يكاد يسلم على هذا من عموم الآية إلا من اتبع ما اختاره الله تعالى لعباده وشرعه سبحانه لهم في كل ما يأتي ويذر، وعليه يدخل الكافر فيما ذكر دخولًا أوليًا {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} استئناف مسوق لاستبعاد كونه صلى الله عليه وسلم حفيظًا على هذا المتخذ يزجره عما هو عليه من الضلال ويرشده إلى الحق طوعًا أو كرهًا وإنكار له، والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله من الحالة الموجبة له كأنه قيل: أبعد ما شاهدت غلوه في طاعة الهوى تعسره على الانقياد إلى الهدى شاء أو أبى، وجوز أن تكون وأي علمية وهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وليس بذاك.
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}.
إضراب وانتقال عن الإنكار المذكور إلى إمكار حسبانه صلى الله عليه وسلم إياهم ممن يسمع أو يعقل حسبما ينبىء عنه جده عليه الصلاة والسلام في الدعوة واهتمامه بالإرشاد والتذكير على معنى أنه لا ينبغي أن يقع أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات القرآنية أو يعقلون ما أظهر لهم من الآيات الآفاقية والأنفسية فتعتني في شأنهم وتطمع في إيمانهم، ولما كان الدليل السمعي أهم نظرًا للمقام من الدليل العقلي قيل: يسمعون أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن اقبائح الداعية إلى المحاسن فتجتهد في دعوتهم وتهتم بإرشادهم وتذكيرهم ولعل ما قلناه أولى فتدبر.
وأيًا ما كان فضمير {أَكْثَرُهُمْ} لمن باعتبار معناه وضمير {عَلَيْهِ} [الفرقان: 43] له أيضًا باعتبار لفظه واختير الجمع هنا لمناسبة إضافة الأكثر لهم وأفرد فيما قبله لجعلهم في اتفاقهم على الهوى كشيء واحد، وقيل: ضمير {أَكْثَرُهُمْ} للكفار لا لمن لأن قوله: {تَعَالَى} عليه يأباه وليس بشيء، وضميرا الفعلين للأكثر لا لما أضيف إليه، وتخصيص الأكثر لأن منهم من سبقت له العناية الأزلية بالإيمان بعد الاتخاذ المذكور، ومنهم من سمع أو عقل لكنه كابر استكبارًا وخوفًا على الرياسة، وقوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} الخ جملة مستأنفة لتكرير النكير وتأكيده وحسم مادة الحسبان بالمرة والضمير للأكثر أو لمن، واكتفى عن ذكر الأكثر بماق بله أي ما هم في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات وانتفاء التدبر بما يشاهدونه من الدلائل البينات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} منها {سَبِيلًا} لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها وتعرف من يحسن إليها ومن يسىء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوي إلى معاطنها ومرابضها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم سبحانه وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانه تعالى إليهم من إساءة الشيطان المزين لهم اتباع الشهوات الذي هو عدو مبين ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والمورد العذب الروي، ولأنها إن لم تعتقد حقًا مستتبعًا لاكتساب الخير لم تعتقد باطلًا مستوجبًا لاقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لا تتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنة والفساد وصد الناس عن سنن السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة فيها بل صارفة لها إلى ما خلقت له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها.
واستدل بالآية على أن البهائم لا تعلم ربها عز وجل، ومن ذهب إلى أنها تعلمه سبحانه وتسبحه كما هو مذهب الصوفية.
وجماعة من الناس قال: إن هذا خارج مخرج الظاهر، وقيل: المراد إن هم إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بالآيات القرآنية والدلائل الأنفسية والآفاقية فإن الأنعام كذلك والعلم بالله تعالى الحاصل لها ليس استدلاليًا بل هو فطري، وكونهم أضل سبيلًا من الأنعام من حيث أنها رزقت علمًا بربها تعالى فهي تسبحه عز وجل به وهؤلاء لم يرزقوا ذلك فهم في غاية الضلالة. اهـ.